سورة آل عمران - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


قوله: {وَلْتَكُن} قرأه الجمهور بإسكان اللام، وقرئ بكسر اللام على الأصل، و{من} في قوله: {مّنكُمْ} للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس.
ورجح الأوّل بأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من فروض الكفايات يختص بأهل العلم الذين يعرفون كون ما يأمرون به معروفاً، وينهون عنه منكراً. قال القرطبي: الأوّل أصح، فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله سبحانه بقوله: {الذين إِنْ مكناهم فِى الارض} الآية [الحج: 41]. وقرأ ابن الزبير: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم} قال أبو بكر بن الأنباري: وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين، فألحقه بألفاظ القرآن.
وقد روى أن عثمان قرأها كذلك، ولكن لم يكتبها في مصحفه، فدل على أنها ليست بقرآن. وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب، والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها. وقوله: {يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} من باب عطف الخاص على العام، إظهاراً لشرفهما، وأنهما الفردان الكاملان من الخير الذي أمر الله عباده بالدعاء إليه، كما قيل في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وحذف متعلق الأفعال الثلاثة، أي: يدعون، ويأمرون، وينهون لقصد التعميم، أي: كل من وقع منه سبب يقتضي ذلك، والإشارة في قوله: {وَأُوْلئِكَ} ترجع إلى الأمة باعتبار اتصافها بما ذكر بعدها {هُمُ المفلحون} أي: المختصون بالفلاح، وتعريف المفلحين للعهد، أو للحقيقة التي يعرفها كل أحد.
قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ} هم: اليهود والنصارى عند جمهور المفسرين، وقيل: هم المبتدعة من هذه الأمة، وقيل: الحرورية، والظاهر الأول. والبينات الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة لعدم الاختلاف. قيل: وهذا النهي عن التفرق، والاختلاف يختص بالمسائل الأصولية، وأما المسائل الفروعية الاجتهادية، فالاختلاف فيها جائز، وما زال الصحابة، فمن بعدهم من التابعين، وتابعيهم مختلفين في أحكام الحوادث، وفيه نظر، فإنه ما زال في تلك العصور المنكر للاختلاف موجوداً وتخصيص بعض مسائل الدين بجواز الاختلاف فيها دون البعض الآخر ليس بصواب، فالمسائل الشرعية متساوية الاقدام في انتسابها إلى الشرع.
وقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} منتصب بفعل مضمر أي: اذكر، وقيل: بما يدل عليه قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فإن تقديره استقر لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه، أي: يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة، ووجوه الكافرين مسودة. ويقال إن ذلك عند قراءة الكتاب إذا قرأ المؤمن كتابه رأى حسناته، فاستبشر وابيض وجهه، وإذا قرأ الكافر كتابه رأى سيئاته، فحزن واسودّ وجهه، والتنكير في وجوه للتكثير، أي: وجوه كثيرة.
وقرأ يحيى بن وثاب {تبيض} و{تسود} بكسر التاءين. وقرأ الزهري تبياض، وتسواد. قوله: {أَكْفَرْتُمْ} أي: فيقال لهم: أكفرتم، والهمزة للتوبيخ، والتعجيب من حالهم، وهذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإجمال، وقدم بيان حال الكافرين لكون المقام مقام تحذير وترهيب، قيل: هم أهل الكتاب، وقيل: المرتدون، وقيل: المنافقون، وقيل: المبتدعون.
قوله: {فَفِى رَحْمَةِ الله} أي: في جنته ودار كرامته، عبر عن ذلك بالرحمة إشارة إلى أن العمل لا يستقل بدخول صاحبه الجنة، بل لا بد من الرحمة، ومنه حديث: «لن يدخل أحد الجنة بعمله» وهو في الصحيح. وقوله: {هُمْ فِيهَا خالدون} جملة استئنافية جواب سؤال مقدر. وتلك إشارة إلى ما تقدم من تعذيب الكافرين، وتنعيم المؤمنين.
وقوله: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} جملة حالية، وبالحق متعلق بمحذوف، أي: متلبسة بالحق، وهو العدل. وقوله: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين} جملة تذييلية مقررة لمضمون ما قبلها، وفي توجه النفي إلى الإرادة الواقعة على النكرة دليل على أنه سبحانه لا يريد فرداً من أفراد الظلم الواقعة على فرد من أفراد العالم. والمراد بما في السموات، وما في الأرض مخلوقاته سبحانه، أي: له ذلك يتصرف فيه كيف يشاء، وعلى ما يريد، وعبر ب {ما} تغليباً لغير العقلاء على العقلاء لكثرتهم، أو لتنزيل العقلاء منزلة غيرهم. قال المهدوي: وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين، والكافرين، وأنه لا يريد ظلماً للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته، وغناه عن الظلم لكون ما في السموات، وما في الأرض في قبضته، وقيل: هو ابتداء كلام يتضمن البيان لعباده بأن جميع ما في السموات، وما في الأرض له حتى يسألوه، ويعبدوه، ولا يعبدوا غيره. وقوله: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} أي: لا إلى غيره، لا شركة، ولا استقلالاً.
وقد أخرج ابن مردويه، عن أبي جعفر الباقر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} قال: «الخير اتباع القرآن وسنتي».
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال: كل آية ذكرها الله في القرآن في الأمر بالمعروف، فهو الإسلام، والنهي عن المنكر، فهو عبادة الأوثان، والشيطان. انتهى. وهو تخصيص بغير مخصص، فليس في لغة العرب، ولا في عرف الشرع ما يدل على ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حيان قال: {يَدْعُونَ إِلَى الخير} أي: الإسلام: {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف} بطاعة ربهم {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} عن معصية ربهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن الضحاك في الآية قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهم: الرواة.
انتهى. ولا أدري ما وجه هذا التخصيص، فالخطاب في هذه الآية، كالخطاب بسائر الأمور التي شرعها الله لعباده، وكلفهم بها. انتهى.
وأخرج أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة».
وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، عن معاوية، مرفوعاً نحوه، وزاد: «كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة».
وأخرج الحاكم، عن عبد الله بن عمرو، مرفوعاً نحوه أيضاً، وزاد: «كلها في النار إلا ملة واحدة،» فقيل له: ما الواحدة؟ قال: «ما أنا عليه اليوم، وأصحابي».
وأخرج ابن ماجه عن عوف بن مالك، مرفوعاً نحوه، وفيه: «فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة» وأخرجه أحمد من حديث أنس، وفيه: «قيل يا رسول الله من تلك الفرقة؟ قال: الجماعة».
وقد وردت آيات، وأحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي الأمر بالكون في الجماعة، والنهي عن الفرقة.
وأخرج ابن أبي حاتم، والخطيب، عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} قال: تبيض وجوه أهل السنة، والجماعة، وتسود وجوه أهل البدع، والضلالة.
وأخرجه الخطيب، والديلمي، عن ابن عمر مرفوعاً وأخرجه أيضاً مرفوعاً أبو نصر السَّجْزي في الإبانة عن أبي سعيد.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي بن كعب في الآية قال: صاروا فرقتين يوم القيامة، يقال لمن اسود وجهه أكفرتم بعد إيمانكم؟ فهو الإيمان الذي كان في صلب آدم حيث كانوا أمة واحدة، وأما الذين ابيضت وجوههم فهم الذين استقاموا على إيمانهم، وأخلصوا له الدين فبيض الله وجوههم، وأدخلهم في رضوانه، وجنته، وقد روى غير ذلك.


قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هذه الأمة في الفضل على غيرها من الأمم، وكان قيل: هي التامة، أي: وجدتم، وخلقتم خير أمة، ومثله ما أنشده سيبويه:
وَجِيرانٍ لَنا كَانُوا كرام ***
ومنه قوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى المهد صَبِيّاً} [مريم: 29] وقوله: {واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86].
وقال الأخفش: يريد أهل أمة: أي خير أهل دين، وأنشد:
فحلفتُ فلم أتْركْ لِنَفْسِك رِيبةً *** وَهَلْ يْأثَمَنْ ذُو أمَّةٍ وَهُوطَائِعَ
وقيل: معناه: كنتم في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم منذ آمنتم. وفيه دليل على أن هذه الأمة الإسلامية خير الأمم على الإطلاق، وأن هذه الخيرية مشتركة ما بين أول هذه الأمة، وآخرها بالنسبة إلى غيرها من الأمم، وإن كانت متفاضلة في ذات بينها. كما ورد في فضل الصحابة على غيرهم. قوله: {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي: أظهرت لهم. وقوله: {تَأْمُرُونَ بالمعروف} الخ كلام مستأنف يتضمن بيان كونهم خير أمة مع ما يشتمل عليه من أنهم خير أمة ما أقاموا على ذلك، واتصفوا به، فإذا تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر زال عنهم ذلك، ولهذا قال مجاهد: إنهم خير أمة على الشرائط المذكورة في الآية، وهذا يقتضي أن يكون تأمرون، وما بعده في محل نصب على الحال أي: كنتم خير أمة حال كونكم آمرين ناهين مؤمنين بالله، وبما يجب عليكم الإيمان به من كتابه، ورسوله، وما شرعه لعباده، فإنه لا يتم الإيمان بالله سبحانه إلا بالإيمان بهذه الأمور. قوله: {وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الكتاب} أي: اليهود إيماناً كإيمان المسلمين بالله، ورسله وكتبه: {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} ولكنهم لم يفعلوا ذلك؛ بل قالوا: نؤمن ببعض الكتاب، ونكفر ببعض، ثم بين حال أهل الكتاب بقوله: {مّنْهُمُ المؤمنون} وهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فإنهم آمنوا بما أنزل عليه، وما أنزل من قبله: {وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} أي: الخارجون عن طريق الحق المتمردون في باطلهم المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما جاء به، فيكون هذا التفصيل على هذا كلاماً مستأنفاً جواباً، عن سؤال مقدر، كأنه قيل: هل منهم من آمن فاستحق ما وعده الله. قوله: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} أي: لن يضروكم بنوع من أنواع الضرر إلا بنوع الأذى، وهو الكذب، والتحريف، والبهت، ولا يقدرون على الضرر الذي هو الضرر في الحقيقة بالحرب، والنهب، ونحوهما، فالاستثناء مفرغ، وهذا وعد من الله لرسوله، وللمؤمنين أن أهل الكتاب لا يغلبونهم، وأنهم منصورون عليهم، وقيل: الاستثناء منقطع. والمعنى: لن يضروكم ألبتة لكي يؤذونكم، ثم بين سبحانه ما نفاه من الضرر بقوله: {وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الأدبار} أي: ينهزمون ولا يقدرون على مقاومتكم فضلاً عن أن يضروكم.
وقوله: {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} عطف على الجملة الشرطية، أي: ثم لا يوجد لهم نصر، ولا يثبت لهم غلب في حال من الأحوال، بل شأنهم الخذلان ما داموا.
وقد وجدنا ما وعدنا سبحانه حقاً، فإن اليهود لم تخفق لهم راية نصر، ولا اجتمع لهم جيش غلب بعد نزول هذه الآية، فهي من معجزات النبوة. قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} قد تقدم في البقرة معنى هذا التركيب. والمعنى: صارت الذلة محيطة بهم في كل حال، وعلى كل تقدير في أي مكان وجدوا {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله} أي: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، قاله الفراء: أي: بذمة الله، أو بكتابه {وَحَبْلٍ مّنَ الناس} أي: بذمة من الناس، وهم المسلمون، وقيل المراد بالناس: النبي صلى الله عليه وسلم {وَبَاءوا} أي: رجعوا {بِغَضَبٍ مّنَ الله} وقيل: احتملوا، وأصل معناه في اللغة اللزوم، والاستحقاق، أي: لزمهم غضب من الله هم مستحقون له. ومعنى ضرب المسكنة: إحاطتها بهم من جميع الجوانب، وهكذا حال اليهود، فإنهم تحت الفقر المدقع، والمسكنة الشديدة إلا النادر الشاذ منهم. والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدم من ضرب الذلة، والمسكنة، والغضب، أي: وقع عليهم ذلك بسبب أنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الكفر، وقتل الأنبياء بسبب عصيانهم لله، واعتدائهم لحدوده. ومعنى الآية: أن الله ضرب عليهم الذلة، والمسكنة، والبواء بالغضب منه لكونهم كفروا بآياته، وقتلوا أنبياءه بسبب عصيانهم، واعتدائهم.
وقد أخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأحمد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، عن ابن عباس في قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في الآية قال: قال عمر بن الخطاب: لو شاء الله لقال: أنتم فكنا كلنا، ولكن قال: {كنتم} في خاصة أصحاب محمد، ومن صنعهم مثل صنعهم كانوا خير أمة أخرجت للناس، وفي لفظ عنه أنه قال: يكون لأولنا، ولا يكون لآخرنا.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية، ثم قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله منها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة في الآية قال: نزلت في ابن مسعود، وعمار بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل.
وأخرج البخاري، وغيره، عن أبي هريرة في الآية قال: خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، عن معاوية بن حيدة: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الآية: «إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها» وروى من حديث معاذ، وأبي سعيد نحوه.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين، وغيرهما أنه يدخل من هذه الأمة الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، ولا عذاب، وهذا من فوائد كونها خير الأمم.
وأخرج ابن جرير عن الحسن: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} قال: تسمعون منهم كذباً على الله بدعوتكم إلى الضلالة.
وأخرج أيضاً، عن ابن جريج قال: إشراكهم في عزير، وعيسى، والصليب.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن، وقتادة: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} قالا: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
وروى ابن المنذر، عن الضحاك نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس} قال: بعهد من الله، وعهد من الناس.


قوله: {لَيْسُواْ سَوَاء} أي: أهل الكتاب غير مستوين بل مختلفين، والجملة مستأنفة سبقت لبيان التفاوت بين أهل الكتاب. وقوله: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} هو استئناف أيضاً يتضمن بيان الجهة التي تفاوتوا فيها من كون بعضهم أمة قائمة إلى قوله: {مّنَ الصالحين} قال الأخفش: التقدير من أهل الكتاب ذو أمة، أي: ذو طريقة حسنة وأنشد:
وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع ***
وقيل في الكلام حذف، والتقدير: من أهل الكتاب أمة قائمة، وأخرى غير قائمة، فترك الأخرى اكتفاء بالأولى، كقول أبي ذؤيب:
عَصَيْتُ إلَيْها القَلْب إنِّيَ لأمرِهَا *** مُطيعٌ فَما أدرى أرشْدٌ طِلابُها؟
أراد أرشد أم غيّ. قال الفراء: أمة رفع بسواء، والتقدير: ليس يستوى أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله، وأمة كافرة. قال النحاس: وهذا القول خطأ من جهات: أحدها أنه يرفع أمة بسواء، فلا يعود على اسم ليس شيء، ويرفع بما ليس جارياً على الفعل، ويضمر ما لا يحتاج إليه؛ لأنه قد تقدّم ذكر الكافرة، فليس لإضمار هذا وجه.
وقال أبو عبيدة: هذا مثل قولهم أكلوني البراغيث، وذهبوا أصحابك. قال النحاس: وهذا غلط؛ لأنه قد تقدّم ذكرهم، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر. انتهى.
وعندي أن ما قاله الفراء قويّ قويم، وحاصله أن معنى الآية: لا يستوى أمة من أهل الكتاب شأنها كذا، وأمة أخرى شأنها كذا، وليس تقدير هذا المحذوف من باب تقدير ما لا حاجة إليه، كما قال النحاس، فإن تقدّم ذكر الكافرة لا يفيد مفاد تقدير ذكرها هنا، وأما قوله: إنه لا يعود على اسم ليس شيء، فيردّه أن تقدير العائد شائع مشتهر عند أهل الفن، وأما قوله: ويرفع بما ليس جارياً على الفعل فغير مسلم. والقائمة: المستقيمة العادلة، من قولهم: أقمت العود فقام: أي: استقام.
وقوله: {يَتْلُونَ} في محل رفع على أنه صفة ثانية لأمة، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال {آناء الليل} ساعاته، وهو: منصوب على الظرفية. وقوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} ظاهره أن التلاوة كائنة منهم في حال السجود، ولا يصح ذلك إذا كان المراد بهذه الأمة الموصوفة في الآية: هم من قد أسلم من أهل الكتاب؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن قراءة القرآن في السجود، فلا بدّ من تأويل هذا الظاهر بأن المراد بقوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} وهم يصلون، كما قاله الفراء، والزجاج، وإنما عبر بالسجود عن مجموع الصلاة، لما فيه من الخضوع، والتذلل. وظاهر هذا أنهم يتلون آيات الله في صلاتهم من غير تخصيص لتلك الصلاة بصلاة معينة، وقيل: المراد بها: الصلاة بين العشاءين، وقيل: صلاة الليل مطلقاً.
وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ} صفة أخرى لأمة: أي: يؤمنون بالله وكتبه ورسله، ورأس ذلك الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقوله: {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} صفتان أيضاً لأمة: أي: أن هذا من شأنهم، وصفتهم. وظاهره يفيد أنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على العموم؛ وقيل: المراد بالأمر بالمعروف هنا: أمرهم باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والنهي عن المنكر: نهيهم عن مخالفته. وقوله: {ويسارعون فِى الخيرات} من جملة الصفات أيضاً: أي يبادرون بها غير متثاقلين عن تأديتها لمعرفتهم بقدر ثوابها. وقوله: {وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصالحين} أي من جملتهم، وقيل: {من} بمعنى مع: أي: مع الصالحين، وهم الصحابة رضي الله عنهم، والظاهر أن المراد: كل صالح، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الأمة الموصوفة بتلك الصفات.
قوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} أيّ: خير كان {فَلَنْ يكفروه} أي: لن تعدموا ثوابه، وعداه إلى المفعولين، وهو لا يتعدّى إلا إلى واحد؛ لأنه ضمنه معنى الحرمان، كأنه قيل: فلن تحرموه، كما قاله صاحب الكشاف. قرأ الأعمش، وابن وثاب، وحفص، ومرة، والكسائي، وخلف بالياء التحتية في الفعلين، وهي قراءة ابن عباس، واختارها أبو عبيد. وقرأ الباقون بالمثناة من فوق فيهما، وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعاً. والمراد: بالمتقين كل من ثبتت له صفة التقوى، وقيل: المراد من تقدّم ذكره، وهم الأمة الموصوفة بتلك الصفة، ووضع الظاهر موضع المضمر مدحاً لهم، ورفعاً من شأنهم.
وقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} قيل: هم بنو قريظة، والنضير. قال مقاتل: لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم في هذه الآية. والظاهر أن المراد بذلك: كل من كفر بما يجب الإيمان به. ومعنى: {لَن تُغْنِىَ} لن تدفع، وخص الأولاد؛ لأنهم أحبّ القرابة، وأرجاهم لدفع ما ينوبه.
وقوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} بيان لعدم إغناء أموالهم التي كانوا يعوّلون عليها. والصرّ: البرد الشديد، أصله من الصرير الذي هو الصوت، فهو: صوت الريح الشديد.
وقال الزجاج: صوت لهب النار التي في تلك الريح. ومعنى الآية: مثل نفقة الكافرين في بطلانها، وذهابها، وعدم منفعتها، كمثل زرع أصابه ريح باردة، أو نار فأحرقته، أو أهلكته، فلم ينتفع أصحابه بشيء منه بعد أن كانوا على طمع من نفعه، وفائدته. وعلى هذا فلا بدّ من تقدير في جانب المشبه به، فيقال: كمثل زرع أصابته ريح فيها صرّ، أو مثل إهلاك ما ينفقون، كمثل إهلاك ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} أي: المنفقين من الكافرين {ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر المانع من قبول النفقة التي أنفقوها، وتقديم المفعول لرعاية الفواصل لا للتخصيص؛ لأن الكلام في الفعل باعتبار تعلقه بالفاعل لا بالمفعول.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن منده، وأبو نعيم في المعرفة، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر، عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا، وصدّقوا، ورغبوا في الإسلام، قالت أحبار يهود، وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد، وتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله: {لَيْسُواْ سَوَاء} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} يقول: مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه، ولم تتركه، كما تركه الآخرون، وضيعوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم قال: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} عادلة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {آناء الليل} قال: جوف الليل.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع قال: ساعات الليل.
وأخرج عبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن مسعود في قوله: {لَيْسُواْ سَوَاء} قال: لا يستوى أهل الكتاب، وأمة محمد: {يَتْلُونَ ءايات الله ءَانَاء اليل} قال: صلاة العتمة هم: يصلونها، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصلونها.
وأخرج أحمد، والنسائي، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني. قال السيوطي: بسند حسن، عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ليلة، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: «أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم» ولفظ ابن جرير، والطبراني فقال: إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب. قال: وأنزلت هذه الآية: {ليسوا سواء}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن منصور قال: بلغني أنها نزلت هذه الآية: {يَتْلُونَ ءايات الله ءانَاء اليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} فيما بين المغرب، والعشاء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة {فَلَنْ تكفروه} قال: لن يضلّ عنكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن {فَلَنْ تكفروه} قال: لن تظلموه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في الآية يقول: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} أي: المشركون، ولا يتقبل منهم، كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون، فأصابه ريح فيها صرّ، فأهلكته، فكذلك أنفقوا، فأهلكهم شركهم.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {فِيهَا صِرٌّ} قال: برد شديد.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13